الابن الكبير:
عشتُ في هذه الشقة لاثني عشرة سنة تمر علي وكأنها الأبدية في جهنم! وسط أناس يُقال عنهم عائلتي. أم وأب يجمعهم صك زواج فقط ولا يجمعهم أي رابط آخر إلّاه، سكنوا هذا الجحيم منذ عقود، من قبل أن يأتوا بي إلى هذا العالم، إذن هذه البقعة القميئة من الكرة الأرضية هي مسقط رأسي… تعلمت أن أقضي اليوم كله في الادعاء أنني أذاكر وانا في حقيقة الأمر أنشغل بدماغي عن هذا العالم: ألملم حولي أوراق كثيرة في الزاوية هناك وأبدأ في كتابة أي أغنية تطرآ على بالي، أو رسم الدوائر التي تمثل أبدية الجحيم هذا… على يساري نافذة طويلة جدا تطل على ملعب الكرة الذي لطالما رغبت اللعب فيه مع أولاد الحارة ولكن لأن الماء مقسّم بالتساوي بين أفراد العائلة هذه، فإنني لا استطيع أن أستحم كل يوم بعد اللعب، فأفضل عدم اللعب والتعرق كليا فيكفيني من هذا البيت أن أخرج للعالم برائحة البول التي تنتشر في زوايا الصالة لتعلق في ثيابي فتفوح مني كلما حركت يديّ.. أما على يميني تمتد غرفة المعيشة الصغيرة هذه وأكثر ما يشد انتباهي هي تلك البقعة البنية المخضرّة والتي كنت المتسبب الأول فيها. كنت حينها قد سرقت علبة الصودا من الثلاجة، كنت أظن أني بمأمن عن أمي النائمة، بركتُ وسط الصالة هناك بالضبط محدقا في العلبة وأنا أتذكر كل كلمات الوعيد والتهديد لمن يشرب هذا المشروب الأسود المضر بالصحة كما تقول أمي، إذن لم تشربه هي مع كل وجبة؟ ثم تصدر صوتا بعد كل رشفة، صوتا مغريا يدل على أن ما تشربه ممتلئ بالسعادة، بشعور لا يمت لحياتنا المتهالكة بصلة، لذلك أصبح هاجسي الوحيد تلك الأيام أن أحظى بلحظة نشوة مماثلة لنشوة أمي. فتحت العلبة التي أصدرت صوتا أشبه بالفرقعة، تلك الفرقعة التي دوت في أرجاء البيت وقتلت السكون، تلك الفرقعة التي أيقظت أمي من سباتها لتأتي مسرعة غاضبة تقذف الشتائم بأعلى صوت. رشفت رشفة كبيرة بسرعة قبل أن تصل أمي لي، رشفة دغدغت لساني وسقف حلقي، رشفة أعادت لي الحياة قبل أن يصل كف أمي الأبيض طائرا نفاثا لوجهي. والنتيجة طبعا، سقوط علبة الصودا من يدي وانسكاب سائلها الأسود على البساط الأبيض مخلفا تباينا رهيبا في ديكور الغرفة، ومحدثا بقعة سوداء في قلبي: هذه البقعة التي تكبر كلما جال بصري حول غرفة المعيشة وسقطت عيناي نحو بقعة الصودا. هذه البقعة التي تناديني باستمرار لأرتكب حماقة أشبه بفيلم الرعب الذي ينتهي بنهاية سعيدة يعيش فيها الشرير مبتسما سعيدا لأن من حوله لم يقبضوا عليه. بقعة سوداء تتسع كلما علا صوت أمي، آو بدأ أبي بالصراخ، ثقب أسود يلتهم البيت بمن فيه ليخفي العفن، ليخفي الحزن، ليخفي المناقشات الحادة، والصفعات المتتالية، يلتهم الفقر والجوع وليالي الأسى والحرمان، ثقب أسود يبتلع الحياة تماما كما تبتلع بقعة الصودا أمي وأبي وأخي الرضيع.
Reblogged this on Linah A. Sofi.