المسافة بين سطح العمارة والأرض التي رحبت به بحفاوة كانت أطول رحلة يسافرها.. في الحقيقة هي أول رحلة يسافرها.. فلم يخرج من مدينته البائسة يوما ما ليستكشف العالم ومدنه، والحضارات وناسها، ولهذا السبب قرر ان يكون بحارا ولسبب ما لم يستطع ولسبب ما تحطمت آماله امامه وهو ينظر إليها عاجزا عن انقاذها! تستغرق الرحلة ٣ ثوان فقط، ولكنها في دماغه اخذت عمرا كاملا عاشه.. لم يومض شريط حياته امامه كما يقولون في الروايات والافلام، بل عاش كل تفصيلة وكل يوم في حياته مرة اخرى! شعر بنفسه وهو يخرج من رحم أمه ساخطا باكيا لا يريد الخروج للنور، كان يعرف مسبقا في رحم امه ماذا ستكون حياته وكيف سيعيشها ومع هذا خرج وعاش ولم يحاول ان ينهي حياته فقد كان في يوم ما أجبن من أن يفعل! ليس الآن.. شاهد كيف تركه أبوه عند باب الشقة البني، ابتعد عنهم لا يعلم إلى أين تاركا خلفه أم وسبعة بنات وهو! هناك في ذلك الوقت شاهد أبوه ينزل من الدرج ومع كل خطوة يخطوها يدعس حلما ورديا لابنه الذي جاهد في هذه الحياة من بعده! لمعت تفاصيل الفقر في عينيه وهو مستمرا في السقوط نحو الاسفلت، نحو جهنم، نحو العالم البرزخي ليقابل من هم في بؤسه متساويين.. الظلم الذي ذاقه في حياته هاهو الآن يطغى على حلمات التذوق في لسانه، مر كمرارة دواء الكحة، ماهي الحياة عندما لا نعيشها حلوة؟
“أستقيل نعم أنا أستقيل، قبل أن يصيبني مرض، وقبل أن يعتقلني شرطي، وقبل أن يقتلني بلطجي وقبل أن أموت بدخان سجائري، أستقيل من هذه الحياة وأقرر مصيري بنفسي للمرة الأولى والأخيرة” هكذا فكر بابتسامة قبل أن يسمع هاتف احدى الشقق التي مر من خلال نافذتها اثناء سقوطه!
“ترى من يتصل في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ .. تبا.. نسيت ان اتصل عليها”
حاول جاهدا مقاومة السقوط.. حارب بيديه الهواء الذي كان يضرب جسده، اصبح يركل الفراغ.. “اليوم غير مناسب جدا ان اموت اليوم.. تنتظرني على سرير المستشفى مريضة بوجهها الشاحب.. تنتظر مني ان أطمنها علينا.. تنتظر اتصالي أو قدومي بشربة العدس التي علمتني كيف أعدها.. لا يمكن ان اموت اليوم.. فقط اليوم.. كيف لم أتذكر ان اتصل عليها” فكر في أمه وتذكر كيف باغتها هبوط ضغط دمها أول أمس وكيف نقلوها للمستشفى الحكومية، وكيف قاتلوا من أجل سرير لأمه المريضة، وكيف رشى الممرض ليدخلها في سرير في غرفة تشاركها طفلة صغيرة مصابة بحمى شوكية.. وعدها ان يتصل عليها اليوم بعد أن يرجع من جلسة شبابية على البحر مع أصدقاءه.. “لابد انها مستيقظة الآن تنتظر” كان اكثر شيء يكرهه هو الشعور ان احد ينتظره وهو عاجز عن الاعتذار كذلك اليوم الذي اصابه فيه الزكام والصداع ولم يستطع أن يتصل على صديقه الذي واعده لأن رصيده نفذ وصحته لا تسمح أصلا له بالخروج من البيت حتى وإن كان لديه المال الكافي!! والآن “ست الحبايب” هي من تنتظر.. كره نفسه ولكن لوقت غير طويل فهاهو يهوي على الأرض، ويخبط رأسه الاسفلت. سمع صوت عظام ظهره وهي تتكسر وشعر بمفاصل كتفه تنفصل وتطير ذراعه اليمنى بعيدا عنه.. شعر بالدم حارا يخرج من أخدود شق مؤخرة رأسه.. تنسل منه الحياة مع كل نفس يأخذه وتخرج ذكرياته دفعات من كل خليه في جسده.. ظل ينفث الدماء من انفه وفمه، أحس بطعم حديدي لاذع.. وفكر “١٠٠ مرة أطعم من ذل الحياة.. ١٠٠ مرة أهون من مرارة الوطن ، ١٠٠ مرة أفضل من قهر العيش” .. أغمض عينيه قليلا فهو الآن لا يرى إلا برزخا بلون الشفق..
“انني أموت.. انني أموت.. أمي ساعديني.. أيقظيني من كابوسي.. انهضي من سرير المستشفى الأبيض الممل وتعالي.. انظري إلى ابنك الوحيد والحياة تفارقه.. الحياة التي لطالما لعنها.. هاهي تفارقه.. انا آسف.. ولكنني أموت” .. دمعت عيناه قبل أن تفارقها روحه.. دمعت حزنا على أمه.. قهرا من وطنه.. وفرحا لمصيره.
Bottomless words tbark alllh (y)