سقوط .. الجزء الأول

الليل ساكن كسكون الأموات في قبورهم، سكون زائف يخبئ بين طياته صخب عالي لا يسمعه إلا بعضهم، هؤلاء من تمتلىء قلوبهم بضجيج الكسر ومن تدور عقولهم في مدارات واسعة لا تنتهي. المدينة عبارة عن ظلام مشع بأنوار الشوارع التي أخفت نجوم السماء، لا يعلم أي من الناس عن الحياة الأخرى تحت أسقف السيارات المركونة على الخط السريع، او تلك التي تدور بين جدران البيوت المغلقة وخلف أسوار القبور وعلى أسطح العمارات، وعمارته لا تختلف عن عمارات المدينة الصغيرة هذه، فالظلام هو اللون السائد فيها! عمارته تقع في الركن الجنوبي من المدينة، ذلك الركن القذر الذي لطالما أهملته بلدية المدينة وهاهو قد شاخ وهرم بعد أن كان في زمن من الأزمان عصب الحياة. شاخ وشاخت معه حياة الناس! وشاخت جيوبهم وفاضت دموعهم وانتشرت امراضهم هنا وهناك. لا يوجد مصدر ضوء في الليل الا نوافذ شقق العمارات، فقد تكسرت انوار الشوارع ولم يهتم احد بتصليحها. لماذا يهتموا؟ فالناس هنا تنام الساعة ٨، فالكل يريد الهرب من واقعه، كلهم في النصف الجنوبي من المدينة يناموا بأنصاف قلوب، يحلمون بأنصاف الحياة على أنصاف أسرة في أنصاف بيوت!

 الهواء كثيفا جدا فوق سطح عمارته، بالكاد كان يتنفس! يدخل الهواء ثقيلا وببطء إلى رئتيه، ولا يبدو أن الهواء الملوث هذا يخرج من جسده أبدا! أدمنت رئتيه النيكوتين منذ ان كان في الحادية عشر، وعوادم السيارات استنشقها وهو في بطن امه حتى أصبح موقنا أنه إن لم يمت اليوم، فهو بالتأكيد سيموت غدا! أشعل سيجارة وشرع يحرقها ويحرق معها كل حياته، لم يستطع اكمال السجارة فرماها من فوق سور السطح الذي قفز فوقه وجلس. أصبح الهواء أقل كثافة ونسيم الليل يداعب وجهه. لم يكن قادرا على رؤية شيء من حوله.. ظلام دامس، لم ينزعج من الظلام فحياته كلها في الظلام! تابوت وهو ملفوف بكفن! لا حول له ولا قوة! مدفون حيا، ويمشي في هذه الدنيا كزومبي لا هدف له! لم يمانع الظلام أبدا بل على العكس لطالما يخفي الظلام عيوب الإنسان! خلقية وخلقية! توقف عن التخطيط لحياته منذ وقت طويل جدا لا يذكر متى! وأصبح في هذه الحياة يتخبط بين جدران الزمان كما القطة التي تقفز من سور لآخر هربا من أولاد الحارة الأشقياء! بدأت الآن عيناه تعتاد الظلام وبدأ يرى خيالات العمارات الأخرى تبدو بعيدة جدا، كبعد حلمه عنه! شرع يفكر في أحلامه وهو صغير كيف كان كل همه أن يصبح بحار وكيف تحطمت أحلامه في ذلك اليوم، وكيف بعدها تحولت حياته لروتين ممل يكرر نفسه لمدة عشرين سنة الآن! نفس الرجل يدور حول نفس الدائرة ليرجع الى نفس نقطة الفشل المظلمة! لم ينجز في حياته شيء مهم! ولم يترك أثر في قلب احداهن ولم يضع بصمته في هذه الحياة بعد! أي بصمة هذه؟ نظر إلى يديه، الى طول أصابعها وفكر كيف أنه كان بالإمكان أن يصبح عازف بيانو مشهور لولا أنه يكره الموسيقى! لطالما شعر أنه مختلف بشكل سيء عن البشر!! “أستقيل. أنا أستقيل” هكذا فكر وانتهى كل شيء!

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s